في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسيّة | فصل

«في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسيّة»، للباحث بلال عوض سلامة.

 

صدر حديثًا عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» كتاب «في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسيّة»، للباحث بلال عوض سلامة.

يعالج الكتاب الاستعمار الصهيونيّ بوصفه استعمارًا إحلاليًّا يهدف إلى المزيد من السيطرة على الأمكنة الفلسطينيّة حيثما أمكن، خصوصًا سياساته الإحلاليّة في القدس المستعمَرة، المتركّزة في ثلاثة أمكنة، هي: «باب العامود» عبر إحلال واستعمار الإدراك الحسّيّ والعقليّ للمشهد البصريّ للفلسطينيّ في سبيل تهويده و’أسرلته‘، وحيّ الشيخ جرّاح عبر اجتثاث سكّانه وجعل البيت فيه بيئة غير آمنة ومزاحمة للفلسطينيّ على الاستحواذ عليه بالقوّة المفرطة، ومحيط المسجد الأقصى وساحاته والإحلال المقدّس فيه، عبر محاولات إحلال المقدّس اليهوديّ مكان المقدّس الإسلاميّ والعربيّ.

يرصد الكتاب في ملاحظاته الإثنوغرافيّة والسوسيولوجيّة كيفيّة إدراك الفلسطينيّ معنى الأمكنة المذكورة سابقًا وأهمّيّتها، عبر شحذ ذاكرته الفرديّة والجمعيّة، وفعله وحضوره الوطنيّ المقاوم من حيث الحضور والاحتجاج والتدفّق في الشوارع بأشكال متعدّدة، وبالوسائل المتاحة كافّة لاستعادة الأمكنة أو ما يُطْلِق عليه الكتاب «حرب الأمكنة»، وكيفيّة تشكيل وصوغ المكان الفلسطينيّ بوصفه حيّزًا سياسيًّا، لتطوير وشحذ وعيه وهويّته الوطنيّة عبر حضوره اليوميّ كمقاومة في سبيل استعادة المكان رمزيًّا ومادّيًّا.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بالتعاون مع الناشر.

 


 

البيت... من الألفة إلى ساحة للقهر

"حسبي الله ونعم الوكيل... الله أكبر، الله أكبر"، هذه الصيحات الّتي خرجت من أفواه الفلسطينيّين، حينما قصف الاستعمار الصهيونيّ ’برج هنادي‘ في قطاع غزّة، وللمرّة الثانية بتاريخ 11 أيّار (مايو) 2021، إلى جانب أبراج أخرى في وسط قطاع غزّة وشماله، في محاولة منه في الإمعان بإذلال الفلسطينيّ وقهره، وتجريده من المكان الحميميّ، ولجعل واقعه مسلوبًا، وغير مستقرّ أو حتّى آمن في بيته، هذه البقعة المكانيّة الّتي يُفْتَرَض أن تشكّل مساحة الطمأنينة، والركون والاستقرار من الناحية النظريّة لأيّ كان.

هذه التقنيّة العقابيّة، بوصفها جزءًا من السياسات والممارسات الاستعماريّة المدروسة والمعدّة ضمن عقيدة صهيونيّة، أطلقوا عليها ’عقيدة الضاحية‘ الّتي اسْتُخْدِمت في لبنان في عام 2006، في محاولة لكسر حالة الصمود والمنعة والصلابة المجتمعيّة من جانب، ومن جانب آخر، أداة لفضّ حالة الالتفاف الجماهيريّ حول المقاومة. اسْتُخْدِمَت هذه السياسة أيضًا في العدوان الأخير على قطاع غزّة وغيره، مثلًا: ما يجري من محاولة التهجير والاستيلاء على بيوت الفلسطينيّين في حيّ الشيخ جرّاح، أو في حيّ بطن الهوى، وحيّ البستان في بلدة سلوان، إلى الحبس المنزليّ، وهدم المنازل والهدم الذاتيّ، بوصفها ممارسات استعماريّة ضمن مخطّط كامل يهدف إلى تحويل البيت الفلسطينيّ إلى ساحة حرب، واستلاب، وتعرية، وانكشاف، ومنطقة متزعزعة تخلق نوعًا من التوتّر الوجوديّ للفلسطينيّ الّذي يعيش في سياق استعماريّ إحلاليّ.

 

البيت ذاكرة أصحابه 

ندرك جيّدًا أنّ البيت ليس شكلًا هندسيًّا مكوّنًا من المباني والحجارة والطبقات والغرف والممارّ. البيت منظومة قيميّة وأخلاقيّة، جزءًا من تجربة الفلسطينيّ فيه بالشكل الفرديّ والعائليّ والمجتمعيّ، ليكرّس الهويّة والذاكرة وشبكة العلاقات ما بين الذات والآخرين في داخله أو خارجه؛ فَيُعَدّ البيت من أهمّ القواعد الإنسانيّة، الّتي تنبني عليها مجموعة من الأفكار والقيم والذكريات والأحلام والمخيال الإنسانيّ في حيّزه الخاصّ.

هذا المكان الّذي يمنحنا ونمنحه معنى الزمن في الماضي والحاضر والمستقبل، في ديناميّاته الإنسانيّة والبشريّة، فالبيت هو أساس التجربة الأولى للفلسطينيّ، الّتي تدمج بين أفكار وذكريات وتأمّلات. مِنْ دونها يصبح الإنسان كائنًا غريبًا مشرّدًا مفتّتًا بلا قاعدة أو أساس، كما البيت الّذي لا يستقيم بلا قاعدة، فالبيت يمثّل الجسد والروح لقاطنيه، وهو عالم الفلسطينيّ الأوّل بامتياز، الّذي يبدأ بالألفة للمكان وللعائلة وللوطن؛ فزجّ الفلسطينيّ وطرده خارجه، أو هدمه أو الحبس فيه، يعني قتل روح الحياة الإنسانيّة والدافئة في صدر البيت، فحين يُسْتَلَب البيت منه بطرده أو بهدمه، يعني ضمنيًّا خلق واقع من ’اللّايقين‘ وعدم الاستقرار والغربة والاستلاب، فهو مُلْقًى في ’الشوارع‘ رمزًا إلى عالم يستدعي احتشاد العداوة والغربة والاستلاب، وكلمة ’الشوارع‘ فلسطينيًّا تحيل إلى "انعدام القيم والأخلاق والهدف"، كما يتمثّل القول الفلسطينيّ بـ ’أولاد شوارع‘؛ فهو انتزاع لجوهره وروحه الإنسانيّة. مِنْ دون البيت يتحوّل الإنسان إلى صفحة بيضاء، أو نقطة البدايات الّتي ينعدم فيها الخيال والأفق المستقبليّ، لينظر بلا يقين إلى المستقبل، وتمثّل هذه الجريمة والعقاب أداةً لتطويعه أو معاقبته أو سلبه.

البيت منظومة قيميّة وأخلاقيّة، جزءًا مِنْ تجربة الفلسطينيّ فيه بالشكل الفرديّ والعائليّ والمجتمعيّ، ليكرّس الهويّة والذاكرة...

البيت ’مكانًا‘ يعني كلّ شيء للفلسطينيّ، ترتبط به الذكريات الّتي تذكّرنا دائمًا ببقعة جغرافيّة، في غرفة صغيرة، في "مشجبة - حديقة صغيرة"، في سلسلة حجارة كحدود أو جدار البيت الخارجيّ، في الصالون، فوق السطح؛ فالزمن رغم أهمّيّته، إلّا أنّ للمكان أهمّيّة كبرى تستدعي البيت. ربّما يكون الزمان مشوّهًا، لكنّ التجربة والذاكرة بالمكان تترسّخ في إدراكه ووعيه وفي سيرته الذاتيّة، فنستطيع معايشة الاستمراريّة الّتي تحطّمت بفعل التشوّه بمفهوم الزمان، عبر الخيال الّذي نعطيه لمعاني هذا البيت والأحداث الّتي اختبرها.

لطالما كنت أستغرب مِنْ والديّ حينما يستدعيان الذاكرة بالأماكن، بتفاصيلها الصغيرة، قبل تهجيرهم من قريتهم صْطاف في القدس، إبّان التطهير العرقيّ في عام 1948، يتحدّثون بأدقّ التفاصيل عن عين الماء، وعن العشاء الجماعيّ لأهل القرية في ساحتها، وكيف ينام الرجال فوق أسطح المنازل، وكيف كانت والدتي تعجن وترعى الغنم وهي طفلة صغيرة لم تتعدّ السنوات العشر. يذكر والدي كيف اقتحم الاستعمار البريطانيّ (الإنجليز) منزل جدّي لاعتقاله في عام 1936، وأين لجؤوا وعاشوا في البداية في مغارة (...) تفاصيل لا يستطيعان أن يذكراها بعد عام 1967 بهذه الدقّة المؤثّثة بجملة هائلة مِنَ الوصف والسرد. كأنّ الزمن توقّف لديهم هناك، في تلك الحميميّة والألفة الّتي انْتُزِعَتْ مِنْ روحهم في ذلك البيت، فيُعَدّ المكان أكثر إلحاحًا من بضعة تواريخ؛ لأنّه يمثّل القاعدة المؤسّسة للعالم المألوف لديهم حينذاك.

 

النكبة في حيّ الشيخ جرّاح

ما يحدث في حيّ الشيخ جرّاح أو في بلدة سلوان، أو في أيّ منطقة أخرى، ليس منفصلًا عمّا يختبره الفلسطينيّ عن التطهير العرقيّ الّذي يتعرّض له منذ بداية الصراع، وهو انتزاع الفلسطينيّ مِنْ مكانه، وجوده، بيته، مِنَ المكان الّذي يألفه. إذا كان الاستلاب قد وَقَعَ بصورة عنيفة في النكبة، فالآن يختبرها بصورة وقحة وصلفة: فهذا المستوطن بلكنته الأمريكيّة يقول لصبية في حيّ الشيخ جرّاح: "إن لم أسرقه يسرقه مستعمر - غيري"، بل تُجْبَر أن تسكن بيتك مع عدوّك أو قبالة مدخل بيتك. أيوجد قهر أو إذلال وسحق لكرامة الفلسطينيّ أكثر من ذلك؟ حتّى بدا الفلسطينيّ عاجزًا عن الدفاع والاحتفاظ ببيته، وهي مِنْ أهمّ الأسباب في إعادة اكتشاف الفلسطينيّ لذاته عبر الدفاع عن المكان الّذي يقطنه، أو يمارس فيه طقوسه الدينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. لتحيل قضيّة حيّ الشيخ جرّاح إلى القضيّة والرواية الفلسطينيّة كاملة، فمِنَ البيت، أو باب العمود وساحات المسجد الأقصى، حدودًا وأمكنة صغيرة، ليكتشف ذاته في اللدّ والناصرة وبئر السبع؛ فماذا يقول أهالي حيّ الشيخ جرّاح بما يختبرونه؟

ما يحدث في حيّ الشيخ جرّاح (...) ليس منفصلًا عمّا يختبره الفلسطينيّ عن التطهير العرقيّ الّذي يتعرّض له منذ بداية الصراع، وهو انتزاع الفلسطينيّ مِنْ مكانه، وجوده، بيته...

أمّ سمير من عائلة عبد اللطيف تقول: "لم يُبْقوا مِنْ دبّابات وصواريخ إلّا وأحضروه على حيّ الشيخ جرّاح، ليس لهم في هذا البيت ذرّة من التراب، إذا لهم شيء في حيفا ويافا فلهم في هذا البيت شيء، نواجه حملة هجمة استيطانيّة على منطقة القدس بوجه التحديد، هل تتخيّلين أنّني بنيت هذا البيت طوبة طوبة؟ وتربية أبنائي فيه، ونحن نسكنه منذ 70 سنة، مِنَ النكبة عام 1948، ويريدون أن يخرجونا مِنْه بالقوّة، كما فعلوا بجيراننا، حينما أخرجوهم عنوة في الساعة الخامسة صباحًا، وهم عراة وحفاة وبشكل همجيّ. هذا ظلم واستبداد، بيت لك وترتّبينه، ويأتون للادّعاء بأنّه لهم"[1].

تضيف السيّدة سلوى سكافي: "أسكن في منزلي منذ زواجي في عام 1976، وربّيت جميع أبنائي فيه، ويعزّ عليّ فقدانه؛ لأنّ به مجموعة مِنَ الذكريات، وتاريخهم محفور فيه، ولست قادرة على تخيّل أنّ المستوطنين سيستولون عليه ويسكنون فيه بدلًا منّا - وهي تنظر إلى صورة للعائلة - وأشعر بخروجي من البيت، سأموت مثل السمكة الّتي تخرج من البحر، وغير قادرة على تخيّل أنّني سأخرج من القدس، وأتقاسم - مُجْبَرَة - المنزل مع مستوطنين بعدما اسْتُولِي عليه في عام 2009". وتضيف منى الكرد: "القدس حضن، والشيخ جرّاح وطن"[2]. أمّا ريم حمّاد فتقول: "إذا تمّ الإخلاء فسنجد أنفسنا ملقين بالشوارع [إشارة إلى التشريد]، ولا أسمح لأبنائي بالخروج إلى الحيّ؛ خوفًا عليهم من المستوطنين المسلّحين".

 


إحالات

[1]  إحدى المقابلات مع أحد المهدَّدين بالاستيلاء على منازلهم، على قناة «الجزيرة» بتاريخ 10 أيّار (مايو) 2021، على الرابط الإلكترونيّ: https://www.youtube.com/watch?v=OBrQYNXn9I0.

[2] مقابلة مع نساء فلسطينيّات من حيّ الشيخ جرّاح، على موقع اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=owBZ_9jMEUA، (تاريخ الزيارة 14 أيّار (مايو) 2021).

 


 

بلال عوض سلامة

 

 

 

باحث في الثقافة المدنيّة في المدن الفلسطينيّة. محاضر في «دائرة العلوم الاجتماعيّة»، «جامعة بيت لحم».